قمم الخليج: نحو شراكات استراتيجية ومستقبل مشترك
على مدى أكثر من أربعة عقود لم تكن القمم الخليجية مجرد اجتماعات روتينية تجمع قادة دول مجلس التعاون بل تحولت إلى محطات تاريخية تُعزز العلاقات الأخوية وتؤسس لعمل مشترك يقوم على وحدة الهدف والمصير، ويعتمد على إرث طويل من التلاحم التاريخي والثقافي بين شعوب المنطقة قبل تأسيس المجلس ذاته، هذه القمم أظهرت أن الوحدة في القرار الخليجي لم تكن رد فعل ظرفيًا بل نتيجة وعي سياسي راسخ بقيمة الاستقرار والازدهار في المنطقة من خلال تماسك الصفوف وتكامل السياسات.
منذ الدورة الأولى في مطلع الثمانينيات انطلق نهج ثابت قائم على الحوار وتوحيد الرؤى ومعالجة التحديات الإقليمية والدولية من خلال رؤية مشتركة، واتباع سياسات تحفظ الأمن والاستقرار وتعزز التنمية، ومع اقتراب القمة السادسة والأربعين المزمع انعقادها في البحرين تتجدد سمات هذا النهج، مما يُظهر أن مجلس التعاون واحد من أبرز التجارب الوحدوية التي أثبتت قدراتها على الثبات والاستمرارية في ظل التحولات العالمية المتسارعة.
تأكيدًا على جهود المملكة العربية السعودية في تعزيز العمل الخليجي المشترك يشارك سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد في الدورة الـ46، وهذه المشاركة تُعتبر امتدادًا لرؤية خادم الحرمين الشريفين المعتمدة منذ عام 2015 والتي وضعت إطارًا شاملًا لتعزيز التكامل في مجالات الدفاع والأمن والاقتصاد، مما أدى إلى تنظيم مسارات التعاون ورفع مستوى التنسيق وتعزيز فاعلية المجلس في مواجهة التحديات الجديدة.
تشير القمم المتعاقبة منذ تأسيس المجلس في 1981 إلى تطور ملحوظ في الهياكل المؤسسية وشراكات اقتصادية وعسكرية وأمنية مؤثرة، وقد أسهمت هذه الجهود في تعزيز مرتكزات الاقتصاد الخليجي ودعم الاتحادات الجمركية وتسهيل الحركة التجارية، إضافة إلى ذلك تم إطلاق مشروعات الربط الكهربائي والموافقة على إنشاء هيئة السكك الحديدية وتسهيل الحركة وتنقل السكان ودعم إنشاء شركة المدفوعات الخليجية مما ساهم في بناء تكامل فعّال بين الدول الأعضاء.
في الجانب السياسي تعكس القمم الخليجية إطارًا متكاملًا للتعامل مع القضايا الإقليمية كما هو الحال مع القضية الفلسطينية والأزمات العربية، وقد تجلى هذا الدور خلال القمم التي تناولت الأوضاع الأمنية ومكافحة الإرهاب والتصدي للتدخلات الخارجية، بالتزام مطلق بالثوابت الخليجية المعتمدة على احترام القانون الدولي وامتناع التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بجانب دعم الحوار والحلول السلمية كوسيلة مثلى لحل الإشكالات.
تتضح رؤية العمل الاقتصادي المشترك عبر القمم منذ بداية الألفية الجديدة، حيث تم تطوير الاتفاقيات وتوحيد الإجراءات الجمركية وتعزيز السوق الخليجية المشتركة، وما نتج عنه من تسهيلات للمواطنين وزيادة الاستثمارات التجارية، وقد ساعد هذا على تطوير بيئة اقتصادية متكاملة قادرة على التعامل مع المتغيرات العالمية بكفاءة عالية ومرونة ملحوظة.
تجلت آثار التكامل الدفاعي في القمم الأخيرة عبر تفعيل القيادة العسكرية الموحدة والارتقاء بمستوى العمل الأمني وتطوير آليات تبادل المعلومات، وزيادة التعاون الدولي، وإطلاق شراكات استراتيجية مع الدول الكبرى بما يعزز من مكانة المجلس الحيوية في حفظ الأمن والسلم الدوليين، حيث أن القمة الحادية والأربعين التي عُقدت في العُلا أوضحت أهمية وحدة الصف الخليجي وأطلقت مرحلةً جديدةً من التعاون المخلص.
دعت القمة الثانية والأربعون في الرياض لتأكيد على قوة المجلس ووحدة الصف ودعم المبادرات البيئة والتنموية، مع التركيز على تحقيق نتائج مهمة في تعزيز التجارة، ومع القمة الثالثة والأربعون تم الالتزام بسياسات تنويع الاقتصاد وتعزيز التكامل الاقتصادي، وتجديد التوجيه لتكثيف الجهود ضمن رؤية خادم الحرمين الشريفين لتحقيق الوحدة الاقتصادية والأمن المشترك.
وجدّد القادة خلال الدورة الرابعة والأربعين في الدوحة أوائل ديسمبر 2023 موقفهم الثابت تجاه القضايا العربية والإسلامية، معربين عن قلقهم من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، في السياق نفسه أكدت القمة الخامسة والأربعون المنعقدة في الكويت ضرورة تعزيز العمل المشترك وتطوير آليات التعاون في مجالات متعددة لمواجهة المستجدات السياسية والاقتصادية.
تجسد المملكة العربية السعودية دورًا أفقيًا فاعلًا ضمن جهودها لدعم شراكة التعاون الخليجي وتطبيق رؤية خادم الحرمين، حيث أسهمت المملكة في إنجاح الرئاسة الكويتية في الدورة الـ45، مما يعكس انتهاجها لتفعيل الشراكة بين دول المجلس بما يناسب أولويات العمل الخليجي المشترك، مما يعزز قاسم اللقاءات والنقاشات.
جدد المجلس حرصه على تطوير الحوارات مع القوى الكبرى في العالم، حيث يشارك في حوارات منتظمة مع 16 دولة ومنظمة، ومع اكتمال اجترح القمة السادسة والأربعين في البحرين، جاء الوقت لإعادة تقييم الإنجازات وتحديد الأولويات لمرحلة مقبلة موجهة نحو التكامل الاقتصادي والأمني، مما يلبي تطلعات شعوب المنطقة نحو المزيد من الاستقرار والازدهار.
تظل مسيرة القمم الخليجية منذ البداية تعكس الإرادة السياسية للقادة في البناء لضمان وحدة الصف، مما يرسخ فكرة ضرورة التعاون بين دول المجلس لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، وما تحقق من نجاحات وإنجازات يضمن استمرارية المجلس كأحد النماذج الوحدوية الرائدة في الوطن العربي التي تستجيب لطموحات شعوب الخليج في الأمن والتنمية والازدهار.







